أحمد الطاهرى يرصد ملاحظات استراتيجية على ما أنتجته الأزمة الأوكرانية


قال الكاتب الصحفى أحمد الطاهرى، رئيس تحرير روزاليوسف، إن العالم يتابع منذ أكثر من أسبوعين عن كثب كل تفصيلة فى صراع بدا أنه قديم، ولكن جاءت إطلالته الحديثة لتثبت بعض الأبعاد عن شكل نظام عالمى يتم بلورته، مضيفا أن المشهد بلغ قمته فى اللحظة التى أعلنت فيها الولايات المتحدة موعد غزو روسى لأوكرانيا وحددته فى السادس عشر من فبراير.


وأضاف أحمد الطاهرى في افتتاحية مجلة روزاليوسف التي جاءت بعنوان :” كلام فى السياسة، من الرابح.. فى معركة بلا مدافع؟”:” لنتحدث عن الأزمة الأوكرانية إذا جاز الوصف، أو لنقل التوتر بين روسيا وأوكرانيا بالصيغة الإخبارية، دعنا نرصد أبعاد المعترك السياسى والدبلوماسى بين الغرب وروسيا ومن خلفها الصين لنكون أكثر واقعية، حرب تصريحات، بوادر انفراجة يعقبها نفى، والكل يتبع مسارًا محددًا بدا للمراقبين قدر من أبعاده الاستراتيجية والتكتيكية، ولكن وما دام الوصف ينسحب على حدث تتغير تطوراته بين لحظة وأخرى ليكن تصنيفها أنها ملاحظات”.


وأشار أحمد الطاهرى الى أنه فى البداية علينا أن نحدد الأطراف الحاضرة فى المشهد ثم الأطراف الفاعلة ثم الأطراف المتأثرة، مضيفا :” نحن أمام روسيا (بوتين) واستراتيجيته التى تريد إعادة صياغة موسكو بصفتها قوة عظمى، وهذه الصياغة علاقتها عكسية بحضور حلف الناتو بمعنى أنه كلما تمدد الناتو تراجعت الاستراتيجية الروسية والعكس صحيح كلما تم تحجيم الناتو مضت الاستراتيجية الروسية بثبات، كذلك ميدان الأزمة (أوكرانيا) التى تنزف اقتصاديًا من الحرب الإعلامية وأصبحت بين مطرقة التمسك بالسيادة من جهة والمواجهة مع روسيا من الجهة الأخرى، بل تفتيتها بعد اعتراف البرلمان الروسى باستقلال الأقاليم التى تطالب بالانفصال عن أوكرانيا، فى المقابل وهذه الملاحظة الأولى، ظهر سياق يمكن توصيفه بالدبلوماسية (الأنجلوسكسونية) الجديدة ما بين واشنطن ولندن خط سياسى واضح بين العاصمتين أشبه بالحبل السرى، الكلمة من واشنطن يعقبها صدى من لندن، تقارير إنجليزية يعقبها ختم أمريكى، هذا السياق هو أول ممارسة فعلية للدور الدولى البريطانى بعد الخروج من الاتحاد الأوروبى أو ما يعرف بالبريكسيت”.


ونوه أحمد الطاهرى الى أنه من الناحية الاستراتيجية تمضى الولايات المتحدة وفق منهج استمرارية قدرتها على المجال العالمى خلال القرن الحالى كحال القرن السابق وقطع كل الطرق على عودة الندية المباشرة بين واشنطن وموسكو، لافتا الى أن الأزمة الأوكرانية تشابهت مع أزمة نشر الصواريخ السوفيتية فى كوبا، ولكن تبدلت مواقع أطراف اللعبة، متابعا :” فى ستينيات القرن الماضى حاول الاتحاد السوفيتى نشر صواريخ تحمل رءوسًا نووية فى كوبا، وهو ما يجعل العمق الأمريكى فى لوحة التنشين وخاصة ولاية فلوريدا الأمريكية، وقتها تصدى الرئيس كيندى بحسم دبلوماسى وفرض حصار على كوبا وللمفارقة أن كيندى وبايدن هما فقط الرئيسان الكاثوليكيان فى تاريخ الولايات المتحدة فى حين أن جميع الرؤساء من البروتستانت”.


وأوضح أن المخاوف الآن لدى روسيا من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بما يحمله ميثاق الناتو من تضامن عسكرى، وهو ما يجعل العمق الروسى مكشوفًا أمام الولايات المتحدة فى أى لحظة قدرية، مشيرا الى أنه على الصعيد التكتيكى، فإن البيت الأبيض كان يحتاج إلى أزمة دولية كبرى لا تتورط فيها أمريكا عسكريًا، وفى الوقت نفسه تعطى الزخم المطلوب للحضور العالمى الأمريكى من جهة وللرأى العام الداخلى الأمريكى من جهة أخرى.


وأردف أحمد الطاهرى أن الرأى العام الداخلى الأمريكى الآن يعيش مرحلة ريبة إذا جاز التعبير، هذه الحالة يعانى منها الحزب الديمقراطى الذى ينتمى إليه الرئيس جو بايدن لأسباب كثيرة من بينها ارتفاع معدل التضخم بشكل هو الأكثر قسوة منذ 40 عامًا وبلغ 7.5 % وهو ما أدى إلى تحريك الأسعار، مشيرا الى أن التوسع فى صرف إعانات بطالة لشريحة لا تدفع الضرائب، مما جعل القوة العاملة تتأثر، وانه يعنى هنا شريحة العمالة اليومية لأن قطاعًا ارتكن إلى المعونة على حساب كسب الرزق من العمل، وهو ما ضاعف العبء على أصحاب المحال التجارية لأن ساعة العمل ارتفعت بسبب قلة العمالة، وفى الوقت نفسه ارتفعت القدرة الشرائية دون معطيات سليمة، مما ساهم فى ارتفاع الأسعار، وهى النتيجة التى كان مفادها قرار البنك الفيدرالى برفع سعر الفائدة فى مارس المقبل.


وتابع :”هذا التراكم يأتى فى توقيت سياسى حاسم، حيث سيشهد هذا العام انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكي، والسياق لم يعد بحاجة إلى تنبؤ بأفضلية نسبية يحظى بها الحزب الجمهورى الآن تدفعه للسيطرة على المجلسين (مجلس الشيوخ ومجلس النواب)، أكثر دليل على ذلك اقتناص ولاية فيرجينيا والتى تتمتع بـ13 صوتًا فى المجمع الانتخابى من قبل الجمهوريين وأصبح حاكم الولاية فى نوفمبر الماضى جمهوريًا وهو جلين يونجكين، وبالتالى النبرة الأمريكية المتشددة تأتى متوافقة مع السياق الاستراتيجى والتكتيكى للفكر السياسى الأمريكى الآن، كذلك علينا أن ننظر إلى الدبلوماسية الأوروبية، وهنا نعنى قوتين كبيرتين داخل الاتحاد الأوروبى وهما: (فرنسا. ألمانيا) جاءت الأزمة الأوكرانية فى توقيت بالغ الدقة لكلتا الحكومتين”.


وأكد أحمد الطاهرى أن فرنسا تعيش حالة رصد لطبيعة الدبلوماسية الأنجلوسكسونية ما بين واشنطن ولندن، وكانت أولى بوادرها خسارة فرنسية عندما قررت أستراليا إلغاء صفقة غواصات فرنسية فى السادس عشر من سبتمبر الماضى واستبدالها بصفقة غواصات أمريكية تعمل بالطاقة النووية وفق التحالف الأمنى الجديد بين (أستراليا. أمريكا. بريطانيا)، مشيرا الى أنه فى الوقت نفسه تسعى الدبلوماسية الفرنسية إلى تعظيم دور الاتحاد الأوروبى فى فترة معاناة جماعية على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد محصلة الفواتير الأولية لجائحة كورونا.


وأضاف :” أما الدبلوماسية الألمانية فجاء دورها متسقًا مع مناحى متعددة، أولها أن الحكومة الألمانية الجديدة فى مرحلة ترتيب سياسى لحقبة ما بعد ميركل، حدوث الأزمة فى فصل الشتاء، وهو ما أدى إلى ارتفاع فواتير الطاقة، إن روسيا مورد رئيسى للغاز بالنسبة لألمانيا، وهذا الأمر استثمرت فيه ألمانيا من أموال دافعى الضرائب، فضلاً عن تحملها مناوشات سياسية بين المستشارة السابقة ميركل والرئيس الأمريكى السابق ترامب، الأزمة وإن كانت من الناحية الجغرافية تنحصر فى نطاق منطقة البلطيق إلا أن عنصر الطاقة جعل لها امتدادًا طبيعيًا لمنطقتين تعتبران من الدوائر الاستراتيجية بالنسبة لمصر، المنطقة الأولى هى الشرق الأوسط، وهنا نقصد المنطقة المتاخمة لجنوب آسيا الوسطى وتشمل المشرق العربى ومنطقة الخليج وصولاً إلى حافة القرن الإفريقى، كذلك منطقة شرق المتوسط التى تعتبر الكنز الاستراتيجى فى العصر الذى نعيشه”.


ولفت الى أنه خلال الأسبوعين الماضيين جرت تحركات استراتيجية وتكتيكية فى منطقة الخليج، وأن هذه التحركات كان أبرز مشاهدها حدوث مقاربات بين عواصم كان بينها بالأمس القريب حالة تضاد سياسى، حدث انفتاح أمنى بين عواصم كان بينها حتى البارحة ولو فى العلن نفور استراتيجى ومازالت المقاربات ولو وقتية تستحق الرصد والفهم، ولكنها لم تتخذ بعد مرحلة الثوابت، وهو ما يجعلنا أيضًا نتوقع مقاربات وقتية مصرية إذا دعت المصلحة الاستراتيجية لمصر ذلك، لافتا الى أن هذا المشهد برمته يجعلنا ندرك قوة القراءة الاستراتيجية للدولة المصرية وللقيادة السياسية الوطنية ممثلة فى الرئيس عبدالفتاح السيسى، وذلك إذا ما استرجعنا المسار الاستراتيجى المصرى منذ العام 2014 وحتى اليوم ونحن فى الربع الأول من العام 2022.


واختتم أحمد الطاهرى:” إذ نجحت الدولة المصرية فى رسم دوائر استراتيجية جديدة وصلبة تتسق مع تعاظم القدرات التى باتت عليها الدولة المصرية هذه الدوائر تمتد غربًا حتى آخر نقطة فى الإقليم العربى وتنطلق شمالاً حتى جنوب أوروبا وتمتد شرقًا حتى آخر حبة رمال فى الأراضى العربية وتمضى منها جنوبًا نحو أمن البحر الأحمر وحتى مشارف القرن الإفريقى، أضف إلى ذلك الحسم المصرى فى ترسيم الحدود البحرية واستخراج الثروات المصرية وامتلاك القدرة على حمايتها ومضاعفة الكم الاستراتيجى لقناة السويس بإضافة الممر الملاحى الجديد (قناة السويس الجديدة)، والانطلاق بأفق غير مسبوق فى عملية البناء والتنمية وتعظيم القدرات الذاتية للدولة المصرية، هذا المنهج المصرى هو ما جعل مصر الآن فى موضع طمأنينة وسط حالة صراع دولى بالغ الحدة، ولكن على قدر الثقل يأتى النصيب من الصراع والتحديات، بمعنى أن عالم اليوم الصراع فيه على أمرين وهما المياه والطاقة، وهو ما يجعل مصر فى قلب مضاعافات تشكيل النظام العالمى الجديد، وهو ما يعزز المطلب الدائم للقيادة السياسية بضرورة وحتمية استمرار البناء وامتلاك القدرات مهما بلغت التحديات”.


 



المصدر

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق